يا ليته سكت

بعد طول غياب عن الأنظار، خرج عمدة مدينة طنجة أخيرًا إلى العلن بحوار إعلامي طال انتظاره، وكأن من حوله أقنعوه بأن الصمت لم يعد مجديًا مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية. غير أن هذه الخرجة لم تكن سوى دليل إضافي على ارتباك في الفهم، وضيق في الرؤية، وعجز عن إدراك ما تتطلبه لحظة تواصلية مع جمهور أنهكته الأسئلة وضجر من غياب الجواب.
خرج العمدة ليجيب عن لا شيء، بل ليرسّخ في أذهان المواطنين فكرة واحدة لا تقبل التأويل: الرجل يجلس على كرسي أكبر منه بكثير.
منذ انتخابه في شتنبر 2021، لم يعرف الرأي العام المحلي من عمدة المدينة سوى الغياب، غياب في الخطاب، وغياب في الموقف، وغياب في الفعل. ثم، وبعد ثلاث سنوات تقريبًا، جاءت الخرجة الإعلامية الأولى وكأنها محاولة يائسة لمغالطة جمهور متابع، لا تنطلي عليه الشعارات المعلّبة ولا لغة التسويق السياسي.
انتظر المواطنون أن يتحدث عن الملفات الكبرى التي تخنق المدينة، فإذا به ينشغل بالرد على تقرير للفيفا بأسلوب دفاعي مرتبك، ويقدّم مشاريع لم تر النور بعد وكأنها إنجازات قائمة. تحدث عن 300 حافلة لم تصل، وعن قطار دائري لم يُنجز، وتصرّف كما لو أن الجماعة هي من تشرف على مشاريع تنموية ضخمة يعلم الجميع أنها من اختصاص الدولة، وموقعة تحت إشراف وزارة الداخلية.
الحوار كان مليئًا بالتناقضات والإجابات الجاهزة، عمدة بدا وكأنه يحفظ ما يجب أن يقال، لا يفهمه. فكل سؤال كان يُقابل بجواب متوتر، لا يعكس إلمامًا بتفاصيل المدينة ولا ارتباطًا يوميًا بمشكلاتها الحقيقية.
لا أثر لملف سوق سيدي الحسين، لا ذكر لكارثة بحيرة الرهراه، ولا كلمة واحدة عن مشاريع سبق الترويج لها على الصفحة الرسمية للجماعة ولم تجد إلى اليوم طريقًا نحو التنفيذ. غاب كل ما هو جوهري، وحضرت لغة المراوغة.
الأدهى من ذلك أن العمدة، وبثقة لا مبرر لها، تحدث عن “أغلبية منسجمة”، متناسيًا أن لا أحد في طنجة يصدق هذا الادعاء. فالكل يعرف أن أغلبيته بنيت على التصدع، وأن كثيرًا من أعضائها انفضوا من حوله منذ الأسابيع الأولى، وأن تمرير الدورات لا يتم إلا بفضل “الطابق الرابع” الذي يؤمّن النصاب عند الحاجة، في تحالفات ظرفية لا علاقة لها لا بالانسجام ولا بالموقف السياسي الموحد. أي انسجام هذا، ومكتبه فقد تماسكه، وفرقته الحزبية تعاني الانقسام؟ هل يقصد انسجامًا مفروضًا بالترقيع، أم انسجامًا آخر لا نعرفه؟
في الوقت الذي كان على العمدة أن يجيب عن قضايا مصيرية، فضّل أن يصرف الانتباه نحو ملفات لا تمت لا للجماعة بصلة، ولا لتدبيره المحدود. لم يتحدث عن أزمة النظافة، ولا عن هشاشة تدبير النفايات، ولم يتجرأ على الخوض في مسألة عصارة الأزبال – المعروفة بـ”الليكسيفيا” – والتي باتت حديث السكان ومصدر قلق بيئي متزايد، وسط حديث متواتر عن تصريفها في البحر بطرق تهدد سلامة النظام الإيكولوجي برمّته. لا توضيح ولا نفي، ولا حتى إقرار بالمشكل، وكأن الأمر لا يعنيه، رغم خطورته البالغة وتورط الجماعة فيه بحكم العقد الذي يربطها بالشركة المفوضة.
وإلى جانب هذا، تجاهل العمدة تمامًا الفوضى التي أصبحت السمة الغالبة على قطاع التدبير المفوض، حيث تغيب المراقبة، وتُترك شركات تُسيّر قطاعات حيوية دون محاسبة حقيقية. نظافة المدينة، الإنارة، النقل… كلها قطاعات يعرف المواطن الطنجاوي كيف تدار فعليًا، لا من خلال العقود، بل من واقع يومي تغيب فيه الفعالية والنجاعة ويهيمن عليه الارتجال وسوء التقدير.
كما لم يأت على ذكر معاناة آلاف الأسر الطنجاوية التي لا تزال محرومة من الماء والكهرباء بسبب غياب الشواهد الإدارية، واكتفى بتوصيف المشكلة، كأن الناس لا يعرفونها، دون أن يقدم أي تصور لحلها.
العمدة لم يفهم بعد أن دوره ليس وصف المعاناة، بل تقديم الأجوبة المقنعة والحلول القابلة للتطبيق. فلا أحد ينتظر منه أن يخبرنا بعدد الأسر التي تعاني، بل كيف سيُخرجها من هذه الوضعية غير الإنسانية التي لا تحترم أدنى معايير الكرامة.
ثم تأتي الفقرة الأكثر إثارة للسخرية، حين حاول العمدة أن يُقنع المتابعين بأنه ليس دخيلًا على السياسة، بل من أهلها، بقوله إنه يمارس السياسة منذ 2003. لكن الحقيقة أن كل ما فعله منذ ذلك التاريخ لا يرقى إلى مسار سياسي، بل هو تنقل متكرر بين الأحزاب، وبحث دائم عن موقع سلطة، إلى أن أسعفه الحظ وحده في 2021، فوجد نفسه على رأس مدينة لا يملك أدوات تسييرها. وبجوابه ذاك، أكد فقط أنه ليس سياسيًا، بل وافد بالصدفة على مشهد لا يتقنه.
خرجة إعلامية كان من المفروض أن تكون تمرينًا على الشجاعة، تحولت إلى لحظة ضعف وتعرية. لم تكن إلا محاولة تجميل وضع لا يُجمّل، وتبرير إخفاق لا يُبرر. لقد بدا العمدة كما لو أنه يرد على أسئلة لم تُطرح، ويتهرب من الإجابة عن أسئلة يعرف أن إجابتها لن تكون لصالحه.
إن ما تحتاجه طنجة اليوم ليس خطابًا باردًا، ولا خرجة متأخرة تُروّج لمشاريع الدولة وكأنها إنجازات الجماعة. ما تحتاجه هو تواصل صادق، وشجاعة سياسية، وحلول عملية تحترم وعي ساكنة أصبحت تقرأ ما وراء الكلام، وتفهم متى يكون الخروج إلى الإعلام ضرورة، ومتى يكون مجرد تمرين في العلاقات العامة لا أكثر.
لقد تحدث العمدة كثيرًا… ولم يقل شيئًا.
والواقع أن هذه الخرجة الإعلامية لم تفعل سوى تأكيد ما أصبح قناعة جماعية لدى المواطنين: يا ليته سكت.
