رحيل متأخر.. طنجة تتحرر من قبضة “أمانديس”

تمثل مغادرة شركة “أمانديس” لمدينة طنجة نهاية حقبة طويلة من التدبير المفوض لخدمات الماء والكهرباء والتطهير، لكنها ليست نهاية تستدعي الأسف بقدر ما تفرض التأمل في سنوات من الاحتجاجات والاستياء الشعبي الذي رافق أداء هذه الشركة. فمنذ أن استلمت تدبير هذه الخدمات، لم تتوقف الشكاوى حول غلاء الفواتير، سوء الخدمات، وغياب الشفافية في التعامل مع المواطنين، ما جعل العلاقة بين سكان المدينة وهذه الشركة الفرنسية متوترة ومشحونة طيلة سنوات وجودها ولعل انتفاضة الشموع، أكبر دليل.
لم تكن “أمانديس” مجرد شركة توفر خدمات أساسية، بل تحولت إلى رمز لمعاناة فئات واسعة من ساكنة طنجة مع سياسات تسعيرية مبهمة، وقرارات لا تعكس حاجيات المدينة وسكانها. فمن ارتفاع غير مبرر للفواتير، إلى أخطاء متكررة في الفوترة، إلى انقطاعات مفاجئة للخدمات، كانت هذه الشركة دائما في قلب الجدل، بل وفي قلب الشارع، حيث خرج آلاف المواطنين في محطات عديدة للتعبير عن رفضهم لممارساتها، مطالبين برحيلها الفوري.
ورغم محاولات الشركة تلميع صورتها من خلال برامج استثمارية وإصلاحات جزئية، إلا أن الواقع ظل يفضح محدودية هذه التدخلات، التي لم تنجح في استعادة ثقة المواطنين. لم يكن الأمر يتعلق فقط بعدم رضا السكان، بل امتد ليشمل مؤسسات رسمية عبر تقارير رقابية كشفت عن اختلالات في التسيير، وتجاوزات مالية، وسوء تدبير للبنيات التحتية الخاصة بالتطهير السائل وتوزيع الماء والكهرباء.
إن اقتراب رحيل “أمانديس” ليس خسارة للمدينة، بل فرصة لإعادة النظر في سياسات التدبير المفوض برمتها، وإعادة توجيه الخيارات نحو نموذج أكثر شفافية وعدالة، يضع مصلحة المواطن في صلب أولوياته. فالتجربة أظهرت أن منح قطاع حيوي كهذا لشركة أجنبية دون رقابة صارمة ولا آليات محاسبة فعلية، هو مغامرة غير محسوبة العواقب، يدفع ثمنها السكان يوميا.
الرحيل غير المأسوف عليه يفتح باب التساؤلات حول ما بعد “أمانديس”، وكيف سيتم تدبير هذه الخدمات في المستقبل. فالمطلوب ليس فقط إنهاء التعاقد مع شركة أثبتت فشلها، بل بناء نموذج جديد يضمن خدمة عمومية فعالة، عادلة، وبأسعار معقولة، تضع حدا لمعاناة استمرت لعقود. فإذا كان خروج “أمانديس” نتيجة لضغط الشارع والتقارير الرقابية، فإن القادم يجب أن يكون أكثر التزاما بمصالح المواطنين، وإلا فإن السيناريو قد يعيد نفسه مع فاعل جديد، بنفس الأخطاء وبنفس التداعيات.