“سور المعكازين”.. عندما تحوّلت الرقابة الجماعية إلى صفعة للمسؤولين الفاشلين والمنتخبين الصامتين

في طنجة، المدينة التي تُختزن في تفاصيلها طبقات عميقة من الذاكرة الجماعية، لم يكن فتح “سور المعكازين” مؤخرًا مجرّد خطوة تقنية لإعادة تهيئة فضاء عمومي، بل تحوّل إلى لحظة رمزية كشفت عمق الوعي المدني، وأعادت الاعتبار لفكرة الرقابة الجماعية باعتبارها أحد أركان تصحيح القرار العمومي وضمان احترام الذوق العام والمصلحة المحلية.
فما إن تم فتح الساحة بعد نهاية الأشغال ليلة عيد الأضحى، حتى اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي بتعليقات وتدوينات وفيديوهات غاضبة، سخرت من الشكل الرديء للتهيئة، واعتبرته تشويهًا لمعالم المكان وطمسًا لهويته البصرية. رأى كثيرون في ما أنجز إفراغًا لهذا الفضاء الرمزي من معناه، وتنكّرًا لذاكرة الطنجاويين التي ارتبطت لعقود بهذا الجدار المطل على البحر، البسيط في ملامحه، العميق في دلالاته.
ومع تصاعد الانتقادات، بدأ تداول بلاغات غير موقعة، منسوبة لمصالح داخل الولاية، تسربت على ما يبدو في محاولة لامتصاص الغضب، تتحدث عن كون الأشغال لم تنته، وأن التهيئة ستُستكمل بعد العيد. غير أن هذا الخطاب المرتجل لم ينجح في تهدئة الرأي العام، بل زاد من حدّة الاستياء، واعتبره كثيرون محاولةً لاستغباء المواطنين، وانتقاصًا صريحًا من الذكاء الجماعي لساكنة طنجة، الذين باتوا أكثر وعيًا بحقوقهم وأكثر جرأة في مساءلة ما يُنجز باسمهم.
أمام هذا الضغط الشعبي، تدخل والي جهة طنجة تطوان الحسيمة، السيد يونس التازي، ونزل إلى عين المكان، واطلع عن كثب على مكامن الخلل، ليصدر تعليماته بإعادة الأشغال من نقطة الصفر، وفق تصور يحترم روح المكان وتطلعات سكان المدينة. كان ذلك القرار حاسمًا وجريئًا، لا فقط من حيث مضمونه، بل من حيث رمزيته، باعتباره استجابة مباشرة لصوت الناس، وإقرارًا ضمنيًا بأن الرأي العام حين يكون يقظًا لا يمكن تجاهله.
في المقابل، فإن الصمت المطبق لعمدة المدينة في هذه القضية لم يكن مفاجئًا للطنجاويين، الذين اعتادوا على غيابه كلما تعلق الأمر بملفات محرجة أو قضايا حساسة. لكنّ المفارقة المثيرة للسخرية أن العمدة نفسه كان قد صرّح في إحدى خرجاته الأخيرة بأنه “يمارس السياسة بشكلها الصحيح وليس مثل الآخرين”. وهو تصريح يستحق إعادة النظر اليوم: هل الصمت الكامل في قضية أثارت الرأي العام، وعدم إصدار أي توضيح أو موقف، هو “الشكل الصحيح” من ممارسة السياسة؟ وهل الاختباء خلف الوالي والتواري عن النقاش العمومي هو ما يميز “السياسي الجاد” عن “الآخرين”؟
سكان طنجة، في الواقع، لم يعودوا ينتظرون من العمدة أي توضيح، فقد اعتادوا على غيابه، وتكيّفوا مع فكرة أنه يفضل الصمت بدل المواجهة، ويختار الانزواء كلما تعلق الأمر بمساءلة الإنجاز أو تقييم الأداء. وهذا الغياب لم يعد مجرد ملاحظة معزولة، بل تحول إلى علامة فارقة تميز أداء الجماعة في المدينة.
إن ما حدث في “سور المعكازين” لا يمكن اختزاله في عملية تهيئة ناجحة بعد فشل، بل هو درس حضري عميق في كيف يمكن للرأي العام أن يفرض تصحيح المسار حين يمتلك أدواته، ويثق بوعيه، ويتمسك بحقه في مدينة أجمل وأرقى. لقد نجح سكان طنجة في تحويل فضاء حضري إلى قضية رأي عام، وأجبروا السلطات على التراجع، والتصحيح، والاعتراف بأن جودة الفضاء العام هي انعكاس مباشر لكرامة السكان.
“سور المعكازين” لم يعد مجرد جدار يطل على البحر. لقد أصبح مرآة تُظهر من يحرص على المدينة، ومن يتقاعس، ومن يصغي إلى الناس حين يغضبون. بل أصبح، بكل وضوح، نموذجًا لما يمكن أن تفعله الرقابة الجماعية حين تتحول من شعور صامت إلى قوة ضغط واعية وفعالة.
